فأخذتها .. ثم طارت .!
ثم
طارت...، دندنة يردّدها البعض في سياقات المزاح؛ استئناسًا بمقطع مرئي منتشر لرجل
بسيط ينغّم هذه الكلمات؛ في مشهد جميل يأسر الألباب!
تأملت
هذه الكلمات؛ لأجدها تعبيرًا عميقًا لحال متكررة نقع فيها، فكم هي الفرص التي ضاعت
من بين أيدينا في وقت نكون أحوج ما نكون إليها.
زرت
صديقًا لي إجابة لدعوته بمناسبة سكناه لبيته، وقد سبق أقرانه من زملائه في ذلك،
وعند نهاية حديثه عن مرحلة البناء، قال: جاءت فرصة للتدريس في إندونيسيا مدة أربع
سنوات براتب ضعف راتبي، وكنت من الأسماء المرشحة للتدريس هناك، فأحجم الزملاء، أما
أنا فاتخذت قراري سريعًا، ولم يبدأ العام الدراسي إلا وأنا ضمن كادر التدريس في
جاكرتا.
وسألت
عقاريًّا عن مسيرة عمله العقاري المتميز، فقال: عرض عليّ فلان الشراكة معه في بناء
الفلل الجاهزة للسكنى، فاتخذت قراري وعزمت أمري وعملت معه.
وَعاجِزُ الرَأيِ
مِضياعٌ لِفُرصَتِهِ حَتّى إِذا فاتَ أَمرٌ عاتَبَ القَدَرا
ولعلّ
تساؤلًا يخامر دواخلنا عن مدى عدالة تواجد الفرص في حياة الناس؟ وهل تتخير الفرص
أصحابها؟ هو تساؤل مشروع في المجمل، ولكن، لعلّ شيئًا من التفصيل يمحو هذا اللبس
في السؤال.
نلمح
من خلال المثالين السابقين أن الفرصة قد أتيحت لمجموعة من الناس في حقل التعليم،
ولكن واحدًا من هؤلاء هو الذي فاز بهذه الفرصة. وكذلك الرجل في المثال الآخر،
حتمًا قد عُرضت هذه الشراكة على غيره من المتقاعسين، ولكنه حاز السبق في اغتنام هذا
العرض القائم بين يديه. فما الذي قدمّهما حين تأخر غيرهم؟
قد تتعدد الأسباب والرؤى تجاه هذا الأمر، ولكنني أحصر هذه الأسباب في أمرين بعد توفيق الله:
أولهما: الاستعداد النفسي، فجميع الذين انتهزوا فرصهم كانوا مترقبين
قبل وصولها، مستعدين لاستقبالها استقبالًا يليق بها؛ فالفرصة ليست أمرًا غير ذي
بال حتى تترك، ولكنها غنيمة باردة يتسابق نحو تحصيلها المجدون المجتهدون.
ثانيهما:
استمرار العمل على تنمية فرص نجاحها، فليس لنا أن نحكم على اغتنام الفرصة اغتنامًا
صحيحًا إلا من خلال توثبها واستمرارها. إذن، هو استعداد وتعرّض لنفحات الفرص، ثم
استغلالها، والعمل على تأكيدها.
لقد
ساهمت السيرة في علاج هذا الموضوع من خلال مثال يتكرر في حياة النبي ﷺ مع أصحابه رضي الله عنهم،
فقد دأب بعض أصحابه على التعرض لهذه النفحات، ولعلي أذكر مثالًا يتجلى عن مدى استعدادهم
رضي الله عنهم لهذا الأمر. ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه، يقول: كنت أبيت مع رسول الله ﷺ فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: " سل؟ ".
فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: " أو غير ذلك" قلت: هو ذاك. قال:
" فأعني على نفسك بكثرة السجود". هذا مختصر الحديث، وإلا فالحديث جاء
مطولًا في مسند أحمد رحمه الله، وقد جاء فيه أن ربيعة tكان
يخدم رسول الله ﷺ طوال النهار حتى صلاة العشاء، ثم يجلس عند باب النبي ﷺ حتى تغلبه
عينه فيرجع إلى بيته، أو ينام عند باب النبي ﷺ. هنا نجد مثالًا طموحًا متعرضًا
لنفحة من نفحات الرحمة، يقول رضي الله عنه: فقال لي يومًا؛ لما يرى من خفتي له، وخدمتي
إياه:" سلني يا ربيعة أعطك"، قال: فقلت: مرافقتك في الجنة. قال ﷺ:"
فأعني على نفسك بكثرة السجود"، أي اعمل على تأكيد هذه الفرصة حتى تؤتي أكلها
بإذن ربها. لقد هيّأ ربيعة t ملامح الفرصة التي كان
ينتظرها؛ بوجوده المتكرر ضمن دائرة حياة النبي ﷺ متحينًا تلك الفرصة التي ظل
ينتظرها زمنًا ليس باليسير.
أما
أنا، سأظل مشدوهًا من صديقي الذي لا يزال ينتظر الفرصة التي سينطلق من خلالها نحو عالم
التجارة، والعمل الحر، منذ عشرين سنة. وهنا أقول ما قاله جلال الخوالده: يا صديقي،
الفرص لا تعطى، الفرص تنتزع انتزاعًا.
دمتم
بخير.