الشكوى في ديوان المفضليات - دراسة أسلوبية
الشكوى في ديوان المفضليات – دراسة أسلوبية
الملخص
يهدف البحث إلى تتبع الشكوى من خلال العصور المختلفة. والكشف عن مواضع الشكوى ومجالاتها المختلفة في ديوان المفضليات. وقد اقتضت طبيعة البحث تقسيمه إلى مقدمة تحدثت فيها عن الشعر العربي عامة وصدق غرض الشكوى فيه، وتعريفٍ بالشكوى من جهتي اللغة والاصطلاح. ثم عرجت بعد ذلك على أهم الدراسات السابقة في الموضوع محل الدراسة، وبيان سبب اختياري لهذا الموضوع. ثم تتبعت بعد ذلك غرض الشكوى ابتداء من العصر الجاهلي مرورًا بعصر صدر الإسلام والأموي، وانتهاء بالعصر العباسي. وبدأت بعد ذلك في استنطاق مواضع الشكوى في الديوان محل الدراسة.
المقدمة
كان الشعر العربي ولا زال حلقة وصل تربط حاضر الأمة العربية بماضيها، فالشعر مرآة حقيقية تعكس طبيعة الحياة العربية على جميع مستوياتها تقريبا. هذه الطبيعة المتنوعة في تشكلاتها أسهمت أيضا في تشكّل أغراض الشعر وموضوعاته، فنجد القارئ للأدب العربي يتنقل بين أغراض الشعر المختلفة من نسيب وفخر وهجاء ورثاء، إلى غير ذلك من الأغراض الشعرية المختلفة.
ومن هذه الأغراض الشعرية غرض الشكوى الذي لا تكاد تخلو منه مرحلة من مراحل الشعر المختلفة عبر أزمنة الشعر القديمة والحديثة، فشعر الشكوى مرتبط بالحالة الإنسانية التي تمر بمراحل مختلفة من حياتها، فيجتاحها الحزن ويصيبها الكدر كما يمر بها الفرح ويغلبها السرور.
وشعر الشكوى من الأغراض الصادقة، نستطيع القول بأنه" فيض تلقائي لمشاعر قوية"، ولعله يشارك الرثاء في ذلك، فهذان الغرضان يحملان من الصدق والجمال ما لا يحتمله غيرهما من الأغراض الشعرية المختلفة من مديح وغزل وفخر، ولعل ذلك عائد إلى ارتباطهما بآلام النفس ومعاناتها التي لا يكاد يندس من ورائها زيف أو تملّق. وكذلك " لأنه يصدر عن مؤثر داخلي عميق باللوعة والفقد، فليس هناك حوافز خارجية تدعمه مثل شعر المديح مثلا".
والشكوى من" شكا الرجل أمره يشكو شكوا، وتشاكى القوم: شكا بعضهم إلى بعض. وشكوت فلانا أشكوه شكوى وشكاية وشكية وشكاة إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك، فهو مشكو ومشكي والاسم الشكوى. قال ابن بري: الشكاية والشكية إظهار ما يصفك به غيرك من المكروه، والاشتكاء إظهار ما بك من مكروه أو مرض ونحوه".
هذا من حيث اللغة. أما الاصطلاح فقد تعددت التعريفات من خلال المعاصرين، ومن ذلك من يرى أن الشكوى" فن من فنون الشعر الوجداني العميق، وهي بعد ذلك لون من ألوان الشعر المتجدد؛ لاتساع نطاقها بين الشعراء؛ نتيجة للحياة الاجتماعية القاسية في ذلك العصر، وبخاصة شكوى الزمان أو الدهريات، وهناك فرع من فروع هذا الفن شكوى الأهل، والأصدقاء، وندرة الوفاء، واختفاء المعروف بين الناس".
ويرى آخر أن الشكوى" إظهار ما يكابده المرء من ألم نفسي، أو جسدي، ناتج عن الظلم والقهر، وسيطرة قوى خارجة عن إرادته، ما يقف أمامه عاجزا، لا يستطيع له ردا".
وسواء أكان هذا التعريف أم ما سبقه فإنه لا يخفى على قارئ أنهما يجتمعان في أن الشكوى إنما تظهر في لحظات الضعف والانكسار التي يظهر من خلالها صدق الشعور ومن ثم صدق المقول. فهي لا تأتي متكلفة متصنعة، بل صادقة تضج بالحقيقة وصدق التجربة؛ لأنه" لا بد أن يتوافر في التجربة صدق الوجدان، فيعبر الشاعر فيها عما يجده في نفسه ويؤمن به".
ولقد استعملت الدراسة المنهج الأسلوبي الذي يعد من أهم المناهج النقدية الحديثة المهتمة بمقاربة النصوص الأدبية وتحليلها، فقد بدا تطور الدراسات الأسلوبية واضحًا وسريعًا في الدراسات الحديثة، وقد اشتد عودها تبعًا للتفاعل الحضاري مع الدراسات الغربية، فالأسلوبية كفيلة بالكشف عن أسلوب الأديب، والمواطن التي يستقي منها أفكاره داخل النص، وهي كذلك عادة ما تكون كفيلة بالكشف عن التوجه اللغوي والأدبي للمبدع، وقدرته في توظيف اللغة فيما يخدم هذا التوجه.
ويظل موضوع الشكوى محور عمل العديد من الدارسين للشعر العربي، والحقيقة أني قد اطلعت على العديد من الدراسات التي ناقشت موضوع الشكوى عبر اتجاهات مختلفة، منها ما يكون عبر الاتجاه الزمني، ومن أمثلته:
الشكوى في الشعر الجاهلي، لقحطان رشيد التميمي، والذي درس من خلال بحثه أثر الظلم في استنطاق الشكوى، وكذلك ظهور الشكوى من أثر الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وناقش الحنين وأثره في بروز التشكي عند الشاعر.
شعر الشكوى في العصر الأموي، لعلي أحمد عبد الله، وقد تتبع باهتمام أنواعا مختلفة من التشكي، فنجده يدرس الشكوى عند المرأة، والشكوى من الدهر، والشكوى من الأحوال الاقتصادية والاجتماعية. بل نجده يغوص في متتبعا مواضع الشكوى داخل النوع ذاته، فهو يدرس الشكوى من المرأة في شعر الغزل، والصعاليك، والفقهاء، والخلفاء.
ومن هذه الدراسات ما يناقش الشكوى عبر الشاعر نفسه، ومن ذلك:
- شعر الشكوى عند أبي العتاهية وناصر خسرو القبادياني، لعباس يداللهي وزينب رضابور، وهي دراسة موضوعية مقارنة ناقش فيها الدارسان منطلقات الشكوى عند الشاعرين، فينطلق أبو العتاهية في شكواه من ذم الدهر والخوف من الموت، وينطلق ناصر خسرو من التدهور في الظروف الاجتماعية والدينية؛ نتيجة ما راج في المجتمع من التدهور الخلقي ومظاهر الحرمان والاعتداء على الحقوق.
- الشكوى في شعر حمزة شحاته، لفهد عويض العقيلي، وهي رسالة ماجستير، تحدث الباحث من خلالها عن بواعث الشكوى عند الشاعر محل الدراسة، مرورا بالصور الشعرية المستعملة في شعره، والظواهر الأسلوبية في شكواه.
ومع ذلك فإني لم أطلع على موضوع الشكوى تحديدا من خلال المدونات الشعرية وفي ديوان المفضليات خاصة، فوجدت هذه الدراسة ملمحا حديثا أضيف به دراسة جديدة في موضوع الشكوى عامة ومن خلال مجالات الشكوى في ديوان المفضليات تحديدا.
مراحل الشكوى
مر غرض الشكوى في الشعر العربي عبر مراحل مختلفة شأنه شأن الأغراض الأخرى من الشعر، ولعله من البداهة أن يكون ذلك؛ فارتباط الشكوى بالحالة الإنسانية كفيل بأن يكتب لشعر الشكوى الاستمرار عبر العصور المختلفة، ولعلنا نعرض في إلماحة سريعة بعض نماذج الشكوى عبر العصور المختلفة.
مرحلة العصر الجاهلي
تنتشر ظاهرة الشكوى في العصر الجاهلي لتتداخل مع أغراض مختلفة للشعر، "وشكوى الشاعر الجاهلي عموما تتصف برهافة الحس، وقوة الشعور، وصدق التعبير، وأكثر معانيهم في القريب، والزمان، وسوء الحال، والكبر، والحبيبة". فالشعر الجاهلي يمثل سجلا شاملا لطبيعة الحياة الجاهلية في مختلف شؤونها، فكانت القصيدة الواحدة تضم في طياتها عددا من أغراض الشعر المختلفة، وبذلك لم يكن للشكوى طريق خاص بها. ومن ذلك ما نجده عند امرئ القيس حين يقول:
وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنــــــــــــــــــــــواع الهمـوم ليبـتلي
فقد جاء هذا التشكي بعد وقوف على الأطلال المندثرة وبكاء عليها، ثم تشبيب بالحبيبة، مما يعطي دلالة واضحة على عدم انفراد القصيدة بغرض الشكوى منفردا. والشاعر هنا يشكو ظلمة الليل الكثيف الذي يوحي بموج البحر في كثافة ظلمته حين ينسدل ويرخي ستوره بأنواع مختلفة من الهموم والأحزان ليبتليه، وينظر ما عنده من الصبر والجزع.
ويشكو زهير بن أبي سلمى طول عمره مع التكاليف المصاحبة له فيقول:
سئمت تكـاليف الحياة ومن يعش ثمـانين حـولا لا أبـا لك يسأم
ويشتكي عنترة بن شداد دهره وأقاربه فيقول:
أعـــــاتب دهـرا لا يلـين لعــــــــــاتب وأطلب أمنـا من صروف النوائب
وتوعـدني الأيــام وعدا تغــــــــــرني وأعلـم حقــا أنه وعد كــــــــــــــــــــاذب
خدمـت أنـاسا واتخـذت أقاربــا لعوني، ولكن أصبحوا كالعقارب
وهكذا يمكن اعتبار الشعر الجاهلي مرجعا لطبيعة الحالة النفسية وشكواها في تلك المرحلة.
مرحلة العصر الإسلامي والعصر الأموي
تمثل القصيدة العربية في العصر الإسلامي امتدادا لأغراضها وموضوعاتها بخلاف تلك الموضوعات التي طرأت عليها نتيجة أثر الإسلام، وقد تشترك رؤى النقاد في أن القصيدة الجاهلية قد بلغت ذروة سنام الشعر في جميع العصور، إلا أن ثمة رأيا لابن خلدون يعارض هذه الرؤية حين يقول:" إن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرا من الدولة العباسية في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة. والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث".
قد يظهر التشكي في هذا العصر ضمن أغراض أخرى، وفي الوقت نفسه قد يظهر مستقلا غير ممتزج بأي غرض آخر. فمن مظاهره مستندا على أغراض أخرى نجده ضمن غرض الرثاء" الذي ازدهر أيما ازدهار، وأقبل عليه الشعراء إقبالا شديدا؛ نظرا للظروف الجديدة التي عاشها العرب في ظل الصراع الدامي، الذي تفجر عميقا شديدا بين المسلمين والمشركين". ومن ذلك ما نجده من شكوى المسلمين لفقدهم أبطالهم من الشهداء، كما نجده عند كعب بن مالك يرثي حمزة بن عبد المطلب بعد أحد، حيث" كان استشهاد حمزة صدمة عنيفة بالنسبة لكعب، فقد رثاه بقصائد تفيض بالشعور الصادق والعواطف المتأججة، وعبر فيها عن نفس مكلومة، هدها الهم، وضعضعها الحزن. فيقول:
ولقــد هـددت لفـقـد حمزة هدة ظلـت بنــات الجـوف منها ترعد
ولـو انــــــــه فجـعت حــــــراء بمثله لرأيت راســي صخـــــــرها يتبــدد
كما نلحظ أيضا أثر الإسلام في أشعارهم حين "يتوجهون بشكواهم لله عز وجل، فهو مدبر الأمور كلها سبحانه، يقول خبيب بن عدي - رضي الله عنه - حين حاول الكفار صلبه:
إلى الله أشكــو غــربتي ثم كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي"
وفي الباب ذاته نجدهم يبثون شكواهم من ألم الفقد إلى الله وحده سبحانه، بعد أن اتضحت عندهم فكرة الفناء والخلود، وتيقنوا أن الله وحده هو مصرف الأمور، وفي ذلك يقول مسعود أخو ذو الرمة في رثائه:
إلى الله أشكـو لا إلى النـاس أنني وليلي كـلانا موجع مات واحده
وفي الجانب الآخر نجد المشركين يشكون فقد ذويهم من خلال مرثيات تفيض بالحزن والألم إبان غزواتهم مع المسلمين، فنجد الحارث بن هشام يبكي أخاه أبا جهل ويظهر جزعه لفقده، ويكشف عما يعانيه بعده من ضعف وذل وهم وغم، فيقول شاكيا باكيا:
ألا يا لـهـف نفسي بعد عمرو وهـل يغـني التلهـف من قتيل
يخـبرني المخــبر أن عمـــــــــــــــــــرا أمــام القــوم في جفـر محيــــــــل
وكنت بنعمــة مـا دمت حيـــــا فقـد خـلفت في درج المسيــــــل
كـــــــــــأني حيــــــن أمسي لا أراه ضعيـف العقـد ذو هم طويـــل
وفي العصر الأموي ظهر شعر الشكوى من الأوضاع السياسية والاجتماعية كذلك، حيث استطاع الشعراء تصوير آلامهم من الظلم والجور الذي وجد في مجتمعاتهم من خلال التشكي في أشعارهم. يقول الراعي النميري رافعا شكواه إلى عبد الملك بن مروان، وهو يوضح له ما يفعله السعاة الذين يجمعون الزكاة من ظلم الناس:
أبلـغ أميـر المؤمنـين رســــــــالة شكـوى إليك مظلة وعويــــلا
من نـازح كثرت إليك همومه لو يستطيع إلى اللقاء سبيلا
فالشاعر هنا يرفع مظلمته إلى أمير المؤمنين من خلال شكواه، حيث يستبين من خلالها شدة آلامه التي أوصلته للعويل من كثرة همومه ورزاياه، ثم يستدر عطف أمير المؤمنين في طلب لقاء به يشكو من خلاله هذه الهموم التي ألمت به.
ومما يظهر فيه أثر الإسلام في شعر هذا العصر، هو رفع الشكوى إلى الله، ومن ذلك قول جرير:
إلى الله أشكـو أن بالغـور حاجة وأخرى إذا أبصـرت نجدا بداليـــــــا
إذا مـــــــــــــا أراد الحي أن يتزايلوا وحنـت جمال البين حنت جماليا
مرحلة العصر العباسي
كان لانفتاح الدولة الإسلامية على الممالك الأخرى أثر بالغ في تطور مسيرة الشعر العربي في العصر العباسي، فقد انتقل الشعر نحو مرحلة جديدة تطورت فيه أغراضه وموضوعاته، وكان ذلك امتدادا لسرعة عجلة التطور في كافة المجالات، وتقدم العلوم المختلفة وخاصة اللغوية منها والأدبية. وتبعا لذلك ظهرت الشكوى في ثوب جديد تحكي ما يواجهه الناس من حروب ونكبات، وكثرت مشاكل الفقر والظلم، وهنا كان الشعر بابا للشعراء يبثون شكواهم من خلاله عبر التظلم من الفساد والأحوال السياسية المتردية في البلاد. لذلك كان الشعراء "يضعون أحيانا في مقدمات قصائدهم شكوى مرة من الزمن وهمومه، وأن منهم من أفرد للشكوى بعض قصائد ومقطوعات". وفي ذلك قال الفيلسوف الكندي شاكيا فساد الأحوال السياسية:
أنـاف الذنـــــــــــــابى عـلى الأرؤس فغمض جفونك أو نكـــــــس
وضائل سوادك واقبض يديك وفي قعر بيتـك فاستجــــلس
وعنـــــــــــــد مليكـــــك فابــغ العلو وبالوحدة اليـوم فاستأنس
فـــــــــإن الغنى في قلوب الرجال وإن التعـــــــــــــــــــــزز بالأنفـــس
وكـــــــــــائن ترى من أخـي عسرة غــني وذي ثـروة مفــــــــــــــــــلس
ومن قائـــــــــــــــم شـخصـــه ميـــت عــلى أنـه بعـــــــــــــــد لم يرمــس
"والكندي متشائم إلى أبعد حد، فقد اختلت موازين الحياة، فارتفع الوضيع وهبط الرفيع، ولم يعد هناك مفر من هذا البلاء ولا خلاص، فاعتزل الدنيا، وعش وحيدا بعيدا عن هذا النكر الذي يصطلي الناس ناره، ولا تؤمل فى أن ينقشع هذا الظلام، فلم يعد لك من أمل سوى الالتجاء إلى مليكك وساحات بره. ويزدري الكندي ما في أيدي أصحاب الجاه والسلطان من مال تعافه النفوس الكريمة، فيقول إن الغنى غنى النفس العزيزة، وكم من فقـير هو في حقيقته غني بقلبه وأخلاقه الرفيعة، وكم من غنى هو فى حقيقته فقير بأخلاقه الذميمة، بل إنه ميت وإن بدا حيا، ميت لم يقبر ولم يوضع فى رمسه".
ويسير على هذا النهج أيضا بعض الشعراء أمثال ابن المعتز وابن الرومي، فعلى الرغم من نشأة ابن المعتز في بيئة مترفة، إلا أن الشكوى تكثر في ديوانه، يقول:
لم يبـق فى العيش غير البؤس والنكد فاهرب إلى الموت من هم ومن نكـــــد
مـلأت يا دهـر عيني من مكارههــــــــــــــــــــا يا دهر حسبك قد أسرفت فاقتصد
أما ابن الرومي" فلم يكن يوسع له الوزراء والكبراء فى مجالسهم وعطاياهم، بل كانوا يلقونه في كثير من الأحوال بالحرمان والنكران، وكان يعرف في دقة عبقريته الشعرية، فضاق بالناس وضاق بالحياة، وكانت كما أسلفنا شرا ونكرا خالصين، فعاش يتجرعها غصصا، ولا مغيث ولا مخلص ولا معين". فكان ذلك كفيلا أن يصنع نفسا متشائمة شاكية ترى الحياة بلون السواد. يقول مصورا بكاء الطفل حين الولادة:
لمـا تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولــــــــد
وإلا فمـــــــــــــــــا يبكيه منـها وإنـهــا لأفسح مـما كــان فيه وأرغــــــــــــــد
إذا أبصـر الدنيا استهل كأنــــــــه بما سوف يلقى من أذاهـا مهدد
وللنفــس أحوال تظل كأنهــــــــــــا تشاهد فيها كل غيب سيشهـــــــــد
فالحياة عنده آلام وأثقال، وبكاء الطفل لحظة ولادته دليل كاف على هذه الأوجاع في الدنيا، ثم يعلل هذه الفكرة بأن الواجب على هذا المولود أن يفرح لا أن يبكي؛ لأنه انتقل من الضيق إلى الفضاء الواسع الأرجاء، ولكنه كأنما استحضر ما سيلقاه من الألم والأوجاع التي ستنغص حياته ودنياه.
شكوى الحبيبة
جاءت شكوى الحبيبة في القصيدة الثامنة عشرة من الديوان، في مطلع قصيدة لعبد الله بن سلمة الغامدي، يقول فيها:
ألا صرمت حبائلنا جنوب ففرعنا ومال بـها قضيب
نلحظ هنا أن الشاعر شكّل إيقاعا موسيقيا من خلال التصريع في مطلع القصيدة من خلال حرف الباء في البيت الأول، وهو يسهم بذلك في تكثيف موسيقاه الداخلية؛ تمهيدًا لاستقبال الرسالة الشعرية واستقرارها في ذهن المتلقي. ولعله بذلك يلفت انتباه القارئ أو السامع إلى مطلع القصيدة، ويشد انتباهه من خلال الموسيقى المستعملة في التصريع، تمهيدا لحوار ممتد بالشكوى يكون سببا في تخفيف حدة الألم والحزن.
"والصرم: القطع البائن، وعم بعضهم به القطع أي نوع كان، صرمه يصرمه صرما وصرما فانصرم، وقد قالوا صرم الحبل نفسه، وفي الحديث: لا يحل لمسلم أن يصارم مسلما فوق ثلاث، أي يهجره ويقطع مكالمته". يشكو الشاعر هنا فراق حبيبته (جنوب) وأنها قطعت مودتها وصلتها به حين غادرته سالكة واد بنجد اسمه قضيب، في الوقت الذي سلك فيه هو الاتجاه الآخر الذي وصفه بالعلو حين قال: ففرعنا، يريد بذلك أنهما تفرقا وأخذ كل منهما طريقه في النأي عن الآخر. ولعل الشاعر باستعماله العلو له والدنو لها حين سلكت طريق الوادي أراد الثأر لنفسه من قطعها حبائل المودة والوصال، فهو بذلك يومئ بأنه رغم الابتعاد والبين والشكوى إلا إنه لا زال مرتفعا بنفسه نائيا بها عن موارد الضعف والذل. وسبب هذا التنائي منها أنها رأت فيه كبرا فهزئت منه، ويظهر ذلك في قوله:
على ما أنها هزئت وقــالت: هنون، أجن؟ منشـأ ذا قريب
وهو هنا يستعمل مفردة هزئت وكان بإمكانه أن يستعمل مفردة سخرت، فهي على الوزن الصرفي ذاته والبيت معها لا يتغير وزنه، ولعله آثر استعمال الأولى ليتسق معه الجرس الموسيقي لحرف الهاء بين مفردتي: هزئت وهنون، فتكرار الهاء في الكلمتين وهو الحرف الحلقي الضعيف المهموس الذي لا يحتاج قوة لإخراجه، يوحي بضعف هذا الرجل، سواء أكان هذا الضعف في جسده أم في عقله كما قالت.
وهنون جمع هن، وهو كناية عن إنسان، يقول هنا: بأنها تهزأ منه لما رأت من كبره، أو أنه جن من قريب وعهدها به العقل. "كأنها لما رأته يتصابى على الكبر قالت منكرة: أجن هذا الرجل حتى يتعاطى ما لا يحسن به؟ نعم منشؤه قريب فهو حقيق بأن يفعل ذلك". فيرد عليها بقوله:
فإن أكــبر فـإني في لداتـي وعصر جنـوب مقتبل قشيب
وإن أكبر فلا بأطــير إصر يفارق عاتـــــــــــقي ذكـر خشيب
يقول الشاعر هنا رادا على حبيبته جنوب حين عيرته بالكبر: إن كبرت سني فإن لي أقرانا كبروا مثلي، فهم لي أشباه وأنداد، ويقصد بذلك أنه لم يشب وحده من بين الناس. يريد الشاعر هنا أنه لم يبلغ من العمر مبلغا كبيرا، فهو لا يزال قشيبا، والقشيب الجديد، "قال الليث: سيف قشيب حديث الجلاء وثوب قشيب جديد، وكل شيء جديد قشيب"، فهو ضمن أقران يعيش معهم وهو فيهم، "ولو كانوا تقدموه وتخلف عنهم لاتسع طريق الضجر بغزله، فأما وهو في عداد أبناء وقته، والناشئين في عصره، فلا عجب في اقتدائه بهم، وتعاطيه اللهو معهم".
ثم يؤكد ما ذهب إليه في البيت الثاني حين يقول: وإن كبرت سني فأنا حامل السلاح يوم الجلاد، فهو يصف حاله بأن سيفه ملازم عنقه ومنحن عليه، وقد أخذ عهدا على نفسه بذلك.
والشاعر هنا يورد لفظة الكبر مستعملا الفعل المضارع (أكبر) ليدل بذلك على الفاعلية والحركة والديمومة والاستمرار، وهو ما يكفله الفعل المضارع للمفردة المستعملة، يريد بذلك طبيعة الأشياء وصيرورتها في هذه الحياة. نلمح كذلك تكراره للفظة ذاتها (أكبر) وفي هذا انبعاث للمستوى الصوتي المستعمل من خلال التكرار، فتكرار معنى الكبر في القصيدة يوحي بالألم الذي يجده الشاعر في نفسه بسبب ما وصفته الحبيبة به من كبر، وتصرفات لا تليق به وهو في هذه المرحلة العمرية. والمتأمل كذلك في جانب التكرار للمفردة يلمح تكرار التبرير أيضا، ولعل في تكرار التبرير ملمح لمكانة هذه المرأة من نفسه، فالمحب عادة ما يبحث عن إرضاء شريكه عن طريق تبريره للأخطاء التي تقع، والشاعر هنا يبرر أمرا لم يقع منه؛ فمرور الأيام وتصرم الأعوام سنة كونية لا تتبدل، وهي كفيلة بتقدم عمر الإنسان، ولكنه مع ذلك يقحم نفسه في تبريرات لأمور لم يكن له يد فيها ولعل في هذا دليلا على شدة حبه لها.
شكوى الدهر
شعر التشكي من الدهر واضح بين عند الشعراء في مختلف العصور؛ وذلك" لقسوة الحياة ومشقتها ومعاناة الضنك...، وكان كثير منهم يلقي اللوم على الزمان ويصب حنقه على الدهر"، وقد ظهرت شكوى الدهر ضمن بيتين اثنين في القصيدة الرابعة والأربعين، وهي قصيدة للأسود بن يعفر النهشلي، يقول في مطلعها:
نام الخلي وما أحس رقادي والهم محتضر لدي وسادي
يبدأ الشاعر قصيدته بمطلع موسيقي مصرع يستجلب فيه ذهن المتلقي؛ استعدادا لما سيبثه من شكوى، وفي الوقت ذاته يستعمل الشاعر مفردتين مترادفتين في الظاهر، ولكن دقة استعمالهما من الشاعر في موضعين مختلفين يوحي بتمكنه اللغوي؛ وذلك حين يستعمل النوم للخالي من الهموم، والرقاد له هو. فلفظة النوم عادة ما تجيء على المستوى المعجمي لتدل على النوم المعتاد والذي يكون لفترة قصيرة كما ورد في القرآن:(وجعلنا نومكم سباتا)، أما لفظة الرقاد فتأتي لتدل على النوم الطويل، لذلك قال الله تعالى عن أصحاب الكهف في سورة الكهف:(وتحسبهم أيقاظا وهم رقود). فالشاعر هنا يريد الرقاد لا النوم، ذلك أن الإنسان الذي يعيش حياة خالية من الهموم والأكدار لا يحتاج إلى ما يحتاجه الشخص الذي تكدره الهموم والأحزان، فالثاني يحتاج أضعاف ما يحتاجه الأول؛ نتيجة السهر والتعب المتكرر الذي يعيشه في حياته.
ويصف الشاعر حاله مع الراحة والنوم بأنه لا يجد للنوم سبيلا، بل لا يحس ولا يجد له أثرا، وكيف يكون ذلك والهم حاضر يقض مضجعه كلما وضع رأسه على وسادته، بل كيف يجد طعم الراحة وقد انتابت عليه الهموم والأتراح من كل جانب، في الوقت الذي يجد فيه الخلي الخالي من الهموم والأكدار راحته وأنسه حين عاش بعيدا عن أكدار الدهر وأحزانه ومنغصاته.
ثم يصف حاله من جديد مع هذه الهموم وأنه من غير مرض أو سقم أخذ جسمه في الذبول والنحول من الهم والوجد، وأن السهر قد أكل منامه وراحته، فلا يكاد يجد الراحة نتيجة هذا الهم الذي أصاب فؤاده فمنعه الراحة والسكينة. وفي ذلك يقول:
من غير ما سقم ولكن شفني هـم أراه قـد أصـــــــــــــــــاب فؤادي
ثم ينطلق الشاعر بعد ذلك في شكوى الدهر قائلا:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد
يقول الشاعر: أنه جراء هذه الحوادث من الدهر كأنما سدت الطرق أمامي فلا أكاد أهتدي إلى وجهة صحيحة، فهو يذكر عجزه هنا لضعفه وكبره، ولأنه كان أعشى ثم عمي بعد ذلك. والأسداد هنا جمع سد، " والسد: ذهاب البصر، وهو منه. ابن الأعرابي: السدود العيون المفتوحة ولا تبصر بصرا قويا، يقال منه: عين سادة".
والمتأمل للبيت هنا يلحظ أثر المستوى التركيبي المستعمل فيه من حيث تقديم الجار والمجرور، فقد قدم الشاعر حوادث الدهر من خلال قوله:(ومن الحوادث) لعظمها وقوة أثرها في ضعفه، ولذلك دلالات نفسية كبيرة في نفس الشاعر، كفيلة بأن تجعل هذه الحوادث مقدمة في أول البيت.
ثم يكرس الشاعر هذه الفكرة في نفس المتلقي حين يدعم ضعفه وكبره وضعف بصره بأنه لم يعد يهتدي إلى مرتفعات الأرض ومسيل أوديتها، يقول: إذا خفيت علي التلعة من الأرض، فما دونها أجدر أن يخفى علي. وفي ذلك يقول:
لا أهتدي فيها لموضع تلعة بين العراق وبين أرض مراد
فهو لا يكاد جراء ضعفه وكبره وعجزه وضعف بصره أن يبصر شيئا، ثم وضع حدودا كبيرة لذلك ليبرهن قوة هذا الضعف الذي يعيشه، وذلك حين جعل المسافة بين العراق واليمن التي هي أرض مراد، مكانا لهذا الضعف، وكأنه يقول: لو مشيت من العراق حتى أرض اليمن فإني لن أرى شيئا ولو كان مرتفعا أو منخفضا عن الأرض كالتلعة، فما بالك بما هو أصغر من ذلك.
شكوى الصد
"الصد: الإعراض والصدوف. صد عنه يصد ويصد صدا وصدودا: أعرض. ورجل صاد من قوم صداد، وامرأة صادة من نسوة صواد وصداد". جاءت شكوى الصد ضمن أبيات لثعلبة بن صعبر بن خزاعي المازني يقول في مطلعها:
هل عنـد عمرة من بتات مسافر ذي حـاجة متــروح أو بــــاكر
سئم الإقــــــــامة بعد طـول ثوائه وقضـى لبــانته فليـس بناظر
يقول الشاعر بأنه لا زال يرجو أن تودعه حبيبته عمرة عند سفره بما قد تجهزه به من زاد ومتاع بعد أن سئم ومل من إقامته بعد طول بقائه وقضاء حاجته فهو ليس بمنتظر لشيء بعد ذلك. وكأن الشاعر يتوسل وداعها له قبل أن يغادر مكانه. والنص هنا يتوسل بالطباق على المستوى الدلالي في لفظتي الرواح والبكور في البيت الأول، في حالة تزيد الاتساق مع فكرة السآمة التي طرحها الشاعر في البيت الثاني، فليس المقصود من ذكر الرواح والبكور وقت الرحيل وزمنه، وإنما هي السآمة والضجر من المكان وسرعة الانتقال. وكذلك يستعمل الشاعر مع مفردتي الرواح والبكور حرف العطف (أو) الذي عادة ما يفيد تساوي الأمور، وكأن أمر الرحيل عن المكان أصبح حتما عند الشاعر ولا يضيره الوقت في ذلك، سواء أكان صباحا أم مساء، فالواقع أن الشاعر سئم الإقامة في هذا المكان وينوي الرحيل عنه أي وقت.
لكنه في الوقت نفسه لم يتأمل كثيرا هذا الوداع وهذا الوعد لأن الخلف بالوعد من صفاتها فهي ذات دهاء وبصر بالأمور، وفي معنى آخر للأرب: أي أنها بخيلة وضنينة بالوصل فلا يكاد يصدقها ولو حلفت بدماء البدن فلن يصدق يمينها التي تحلف بها. ويتجلى ذلك في قوله:
لعدات ذي أرب ولا لمواعـــــــــــــــــــــــــــــــــد خلف ولو حلفت بأسحم مائر
ثم يعود الشاعر ليؤكد المعنى ذاته من خلال قوله:
وعدتك ثمت أخلفـت موعودها ولعــل مـا منعتك ليس بضـــائر
ولكنه من خلال هذا البيت يبين عزته وأنفته عن الغضب والحزن لمثل هذا الخلف في الموعد فهو لن يضيره شيئا؛ لأنه قد اعتاد أن الغواني وهن اللواتي غنين بجمالهن عن أن يوصفن، أو غنين بحسنهن عما قد يجملهن من الحلي لا يدمن على حال من الشدة واللين، فهن سريعات التقلب في مشاعرهن تجاه حبيب أو صديق. وذلك في قوله:
وأرى الغـواني لا يدوم وصالها أبـدا على عسـر ولا لمياسر
ثم يختم الشاعر شكواه من الصد بحكمة يريد بها أن الخليل إذا صدك أو جفاك، فاقطع حاجتك له بفراقه وانقطاع وصله بسفر أو رحيل أو غياب، بناقة كحد السيف في مضائها ونجابتها، في إشارة منه إلى سرعة الانقطاع والرحيل عن هذا الخليل، وقطع حبائل المودة والوصل. ويظهر ذلك في قوله:
وإذا خليلك لم يدم لك وصله فاقطـع لبـانته بحرف ضامر
والمتأمل هنا يلمح الانزياح في التركيب النحوي بتقديم شبه الجملة – الجار والمجرور – في قوله: "يدم لك وصله" ليسترعي انتباه السامع بقصر الوصل على الخليل فقط، فأصل الجملة (لم يدم وصله لك) وهي بهذا التركيب لا تمنع الوصل مع غير الخليل، ولكنه أراد بإيراد التركيب في البيت معنى آخر غير دوام الوصل فقط، وإنما اختصاصه به أيضا.
شكوى ابن العم
من "أكثر أنواع الشكوى وقعا في النفوس، تلك التي تحدث بين الأقارب، فمن المفروض أن تكون العواطف بين الأقارب متماسكة قوية، وإذا أحس الشاعر بكدرها عبر عن ذلك بحزن شديد".
ومن ذلك شكوى ابن العم التي جاءت في الديوان مطلع قصيدة لذي الإصبع العدواني يقول فيها:
لي ابن عـم عـلى ما كان من خلق مختلفـــــــــــــــــان فأقليه ويقليـــــــــــــــــــــــني
يظهر الانزياح في هذا البيت من خلال مطلعه حين يستعمل الشاعر شبه الجملة في غير موضعها فيبدأ بها الجملة، قاصدا بذلك تعيين شخص بعينه دون الناس وهو ابن عمه، واصفا بعد ذلك ما يحدث بينهما من أمور.
فيذكر الشاعر خلال هذا البيت ابن عمه الذي كان يخالقه في صفاته، والمخالقة المعاشرة، يقال:" خالق فلانا: عاشره على أخلاقه، عاشره بخلق حسن". يريد بذلك أنهما على الرغم من تخالقهما وحسن معشرهما إلا أنهما كانا مختلفين أحيانا، أي: يصيبهما ما يصيب أي متحابين من سوء فهم وخطأ وما شاكله. ويحدث أن أبغضه ويبغضني نتيجة هذا الذي قد يحدث بيننا. ونلحظ هنا على المستوى المعجمي استعمال الشاعر لفظة (أقليه) دون (أبغضه) مع أن المعنيين تصبان في معنى الكراهة، إلا أن القِلَى يزيد عن البغض في الكراهة، كما ذكر ذلك "ابن سيده: قليته قلى وقلاء ومقلية أبغضته وكرهته غاية الكراهة".
ثم يبين ما عابهم هو وابن عمه حين اختلفا وتفرق أمرهما، وذلك في قوله:
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا فخالني دونه وخلته دوني
أزرى من الزري، "وزريت عليه وزرى عليه، بالفتح، زريا وزراية ومزرية ومزراة وزريانا: عابه وعاتبه. وزرى عليه عمله إذا عابه وعنفه. قال الليث: وإذا أدخل على أخيه عيبا فقد أزرى به وهو مزرى به. ابن الأعرابي: زارى فلان فلانا إذا عاتبه".
وفي قوله شالت نعامتنا معنى الرحيل والبين، "يقال: شالت نعامتهم أي تفرقوا وذهبوا؛ لأن النعامة كما سبق ذكرها موصوفة بالخفة وسرعة الذهاب والهرب. ويقال أيضا: خفت نعامتهم وزف رألهم وقيل النعامة جماعة القوم". ثم يبين نتيجة هذا الافتراق في النفوس قبل الأجساد أنه لم يسع الواحد منهم أن يطمئن لابن عمه. وقد يكون المعنى أن كل واحد منهما صار يستصغر الآخر ويتكبر عليه، وذلك في قوله: فخالني دونه وخلته دوني.
ثم يستعمل الشاعر النداء بعد ذلك مسترعيا انتباه ابن عمه لما سيأتي من إيضاح لأمور أراد الشاعر توكيدها في نفس المتلقي وهو ابن عمه في المقام الأول، فقال:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
لاه ابن عمك لا أفضلت في نســـــــــب عـــــــــــني ولا أنت ديـــاني فتخـــــــــــــــزوني
ولا تقـــــــــــــــوت عيــالي يوم مسغبـــــــــــة ولا بنفســــــك في العـــــــــــــــــزاء تكفيني
يقول له مهددا بعد ندائه: إن لم تترك شتمي وانتقاصي فإنني سأضربك على هامتك حيث يطلب الشراب من العطش، والهامة الرأس. "يقول الأصمعي: العرب تقول العطش في الرأس". "وكانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتزقو عند قبره، تقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت". ثم يبدأ بعد ذلك في تعداد صفاته ومآثره التي لا تدع طريقا لانتقاص ابن عمه له، فهو يقسم بالله أن ابن عمه هذا لا يفضله في نسب، ولا يفضله في مال يسوسه من خلاله ويدبر أمره. ثم يقول: ولا تصرف على أهلي في يوم المجاعة، ولا أنت تكفيني وقت شدتي، ثم يؤكد بعد ذلك موقفه من هذه الأمور الآنفة الذكر حين يقول:
إني لعمرك ما بابي بذي غلــــق عن الصديق ولا خيري بممنـــون
ولا لساني على الأدنى بمنطلق بالفاحشات ولا فتكي بمأمـــــــــون
بعد أن أقسم الشاعر في المرة الأولى بأن ابن عمه لا يفضله في نسب ولا مال، وأنه غير محتاج لابن عمه كي يقوت عياله يوم الفقر والمسغبة، عاد ليستعمل القسم هنا مرة أخرى في دلالة واضحة من خلال تكرار القسم على تأكيد موقفه في الاستغناء عن ابن عمه إن أراد هو ذلك. فالشاعر يبين موقفه هنا بأنه لا يدخر عن صاحبه شيئا، وأن خيره غير منقطع، بل هو مستمر. وفي معنى آخر للفظة(ممنون) كأنه يريد بأنه لا يمن على صاحبه بخيره حين يقف معه مواقف المروءة والشهامة. ثم يثني منقبته الأخيرة بأن لسانه ليس بالفاحش البذيء خاصة على الضعفاء. وإذا تأملنا الأبيات السابقة فإننا نلحظ تكرار النفي في غير موضع من النص (ولا أنت، ولا تقـوت، ولا بنفسـك، ما بابي، ولا خيري، ولا لساني، ولا فتكي) وقد استعمل الشاعر جميع هذه الأدوات وكرر استعمالها ليؤكد معنى الذب عن عرضه وخصاله النبيلة التي لا تدع مجالا ليفضله ابن عمه فيه.
وهكذا رسم لنا الشاعر صورة الشكوى من ابن عمه الذي رأى خذلانه، من خلال تصويره مواقف الخذلان ثم رده عليها بما يرى في نفسه من صفات وخلال الشهامة والمروءة ورفعة النسب.
شكوى الكبر
"يعد الشيب والكبر من أكثر العوامل المثيرة للشجن عند الإنسان؛ لأنه إشارة إلى الهموم ودنو الأجل، فيكون الإنسان إزاءه محكوما بذهاب الشباب والضعف".
وقد ظهرت شكوى الكبر في المفضليات خلال موضعين، أما الأول ففي قصيدة عبدة بن الطبيب حين يقول:
أبني إني قد كبرت ورابني بصري، وفي لمصلح مستمتع
يستعمل الشاعر هنا صيغة التصغير على المستوى الصرفي؛ تحبّبا وتعلقا بأبنائه وذلك في قوله (أبنيّ)؛ استجلابًا لعطفهم كي يرعوا أسماعهم لما يقول، وهو في الوقت ذاته يؤكد معنى الكبر في نفسه وأن العمر قد مضى به، حين يستعمل (قد) التي تفيد التوكيد مع الفعل الماضي (كبرت) في إشارة منه إلى ما يعيشه من لحظات الضعف والانكسار. فهو يخاطب بنيه أنه قد أسن ورابه بصره وشك في قدرته على الإبصار، ولكنه صاحب رأي ومشورة وعلم لمن أراد أن يستفيد من آرائه وعلمه وعقله، فهو ذو عقل ورأي لمن استصلحه واستمتع بعقله ورأيه. ثم يبين لهم بعد ذلك مآثره التي عد منها أربعا، وذلك حين يقول:
فلئن هلكت لقد تركت مساعيا تبقـــــــــــــــــــــــى لكـــــــــــم منهـا مآثر أربع
يعاود الشاعر استعمال صيغ التأكيد، وهنا يستعمل (لقد) ليؤكد مكانته في نفوس أبنائه من خلال ما يتلوه على مسامعهم من مآثر سينعمون بها بعد رحيله، ويستعمل كذلك التقديم والتأخير على المستوى التركيبي حين يؤخر الفاعل في قوله (تبقى لكم منها مآثر أربع) ليفيد الحصر في هذه المآثر التي سيذكرها لكم، وإلا فإن مآثره كثيرة لا حصر لها.
يقول لهم: أنا إن أهلك فلقد تركت لكم من المكارم ما تفخرون به بعدي، ثم بدأ بتعداد هذه المكارم والأخلاق التي ستبقى لبنيه من بعده، وأولها الصيت والشرف الذي سينفعهم بعد رحيله، فوراثة الصيت والشرف بين القبائل مظنة التقدم والسؤدد، وفي ذلك يقول:
ذكر إذا ذكر الكرام يزينكم ووراثة الحسب المقدم تنفع
ثم عدد مكارمه بقوله:
ومقـــام أيــــــــــــــــــــــــــام لهـن فضيلة عند الحفيظة والمجـــــــــــامع تجمع
ولهى من الكسب الذي يغنيكم يوما إذا احتصر النفوس المطمع
ونصيحة في الصدر صادرة لكم ما دمت أبصر في الرجال وأسمع
يقول بأني تركت لكم أيضا مواقف نبيلة كنت قد وقفتها بين القبائل وفي مجامع الناس، وقد كنت أعطي العطايا في الوقت الذي تكف فيه أيدي الناس طمعا، وآخر المآثر ما يأتيكم من نصيحة مني حال حياتي معكم ما دمت أسمع وأبصر.
أما الموضع الثاني الذي جاء فيه شكوى الكبر فهو قول الأسود بن يعفر النهشلي:
إمــا تريني قــــد بليت وغاضـــــــــــــــــــــــني ما نيـل من بصري ومن أجلادي
وعصيت أصحاب الصبابة والصبا وأطعـت عـاذلتي ولان قيـــــــــــــادي
قوله غاضني من الغيض "وغاض ثمن السلعة يغيض: نقص، وغاضه وغيضه، ومن ذلك قوله تعالى:" وما تغيض الأرحام وما تزداد"؛ قال الزجاج: معناه ما نقص الحمل عن تسعة أشهر وما زاد على التسعة، وقيل: ما نقص عن أن يتم حتى يموت وما زاد حتى يتم الحمل".
إذا تأملنا البيتين السابقين سنلحظ كلمات لم تتكرر بعينها، ولكنها تآلفت وتقاربت في جرسها الموسيقي وبنيتها الصوتية (بصري/عصيت/أصحاب/الصبابة/الصبا) فالذي يجمع بينها هو تضمنها حرف الصاد، وهو حرف مهموس، وتكرار هذه الحروف في المفردات المتقاربة عادة ما يتجاوز المعنى المعجمي للمفردات التي ترد فيها، لتعبر عن الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر، وهو هنا يعيش حالة من الضعف والانكسار.
فالشاعر هنا يذكر موقفه من الكبر ويقول: أنا إن ضعفت ونقص من لحمي وبدني، وضعف خلقي وشخصي، وصرت آخذ ما تبقى من الصبابة (وهي ما يبقى متعلقا في الإناء إذا صب ما فيه فيكب الإناء ليقطر) وأصبحت متفجعا على شبابي ولهوي ولعبي، فإني مع ذلك أذهب إلى بائعي الخمر وهم التجار، مرجلا شعري، قلقا بمالي حتى أنفقه، وجمع الجيد وهو العنق في قوله أجيادي يقصد بذلك الجيد وما حوله، وقوله لينا أجيادي كناية عن الشباب أو ميل عنقه من السكر. وفي ذلك يقول:
فلقد أروح على التجار مرجلا مذلا بمـالي لينــا أجيادي
الخــاتمة
وأخيرا فإن الشكوى في الشعر العربي مهما اختلفت مجالاتها فإنها تظل تنبعث من مشكلات مشتركة من الألم والحسرة، وتخرج على صور مختلفة من العتاب والسآمة والكدر. والدراسة مع كونها لم تأت بالطويلة المستقصية، إلا أنها لم تنفرد بشاعر دون آخر، ولا بزمن دون غيره، وإنما جاءت متنوعة الأزمنة متعددة الشعراء؛ ذلك أنها اختصت بمدونة خاصة بالمختارات الشعرية عبر أزمنة مختلفة وشعراء كثر، بل إن اختيارات المفضل كانت لأجود ما قيل في أغراض شعرية مختلفة كان من ضمنها غرض الشكوى محل الدراسة.
وقد يحسب للدراسة تنوع صورة الشكوى، فنجد من يشكو حبيبة أو دهرا أو قريبا، بل امتد الأمر لتصل الشكوى تجاه الأحوال السياسية والمجتمعية في عصر معين.
والمتتبع لمقطوعات الشكوى عامة إما أن يجدها موضوعا مستقلا، أو متداخلة مع أغراض أخرى ضمن قصيدة واحدة، وسواء أكان في هذا المضمار أم ذاك فإن الشكوى تبقى معاناة يكابدها الشاعر تخرج آثارها خلال قصيدة متكاملة أو خلال مقطوعة مختلفة الأطوال، فالأبيات وإن كانت ضمن قصيدة غير مستقلة بالشكوى، فإن أثر الألم والحسرة الباعثين على الشكوى سنجده ظاهرا لا محالة في الأبيات المقصودة، ولعل براعة شاعر ما تظهر من خلال سلاسة الانتقالات من غرض إلى آخر عبر قصيدة واحدة.
إن شعر الشكوى يسجل صدق معاناة الشاعر دون زيف أو خداع، فبواعثه كفيلة باستدرار ما يعالجه الشاعر من ألم وحسرة تكفلان نقل تجربة شعرية صادقة عند المتلقي، إذ يتوافر للشكوى ما يتوافر للرثاء من بواعث تعكس أوجاع النفس البشرية من خلال أحزانها وآلامها، " والحق أن أقدر الناس تعبيرا عن الشقاء من كان الشقاء في نفسه". "فقصائد الشكوى في أي عصر زاخرة بالتحرق والأسى والصبر على الهوان".
المراجع
- ابن منظور، لسان العرب، ط3، (بيروت: دار صادر، 1414هـ).
- أبو الحسن الباخرزي، دمية القصر وعصرة أهل العصر، تحقيق: سامي مكي العاني، ط2، (الكويت، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، 1405هـ).
- أبو القاسم الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب، ط2، (دار الكتب العلمية، بيروت، 1987م).
- أبو بكر محمد الأنباري، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، تحقيق: عبد السلام هارون، ط5، (القاهرة: دار المعارف).
- أحمد بن القاسم، أبو العباس ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق: نزار رضا، ط1، (بيروت: دار مكتبة الحياة).
- أحمد بن فارس، مجمل اللغة، ط2، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1986م).
- أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، ط1، (بيروت: عالم الكتب، 1424هـ).
- أرسطو، فن الشعر، ترجمة وتحقيق: عبد الرحمن بدوي، ط2، (بيروت، دار الثقافة، 1973م).
- جواد رشيد مجيد، الشكوى في شعر القرن الرابع الهجري، رسالة ماجستير، الجامعة المستنصرية، 1988م.
- ديوان ابن الرومي، شرح: أحمد حسن بسج، ط3، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2002م).
- ديوان ابن المعتز، ط1، (بيروت: دار صادر).
- ديوان الراعي النميري، شرح: واضح الصمد، ط1، (بيروت: دار الجيل، 1416هـ).
- ديوان المفضليات، المفضل الظبي، تحقيق وشرح: أحمد شاكر وعبد السلام هارون، ط6، (القاهرة: دار المعارف).
- ديوان جرير، شرح: محمد بن حبيب، تحقيق: نعمان محمد، ط3، (القاهرة: دار المعارف).
- ديوان زهير بن أبي سلمى، شرح: علي حسن فاعور، ط1، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1408هـ).
- سامي مكي العاني، كعب بن مالك الأنصاري شاعر العقيدة الإسلامية، ط2، (دمشق: دار القلم، 1410هـ).
- شرح اختيارات المفضل للخطيب التبريزي، تحقيق: فخر الدين قباوه، ط2، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1407هـ).
- شرح ديوان عنترة، الخطيب التبريزي، ط1، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1412هـ).
- شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، ط1، (مصر: دار المعارف، 1995م).
- عبد الرحمن بن خلدون، تاريخ ابن خلدون، ط1، (بيروت: دار الفكر، 1401هـ).
- عبد القادر بن عمر البغدادي، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ط4، (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1997م).
- عبد الكريم يعقوب، الشكوى من المرأة في شعر الأحوص، (مجلة جامعة تشرين، مجلد 23، العدد الأول، 1430هـ).
- عبد الله أحمد باقازي، رثاء النفس في الشعر العربي، ط1(مكة المكرمة، المكتبة الفيصلية).
- عبد المنعم إسماعيل، نظرية الأدب ومناهج الدراسات الأدبية، ط1، (الكويت، مكتبة الفلاح، 1401هـ).
- عدنان مشعل رشيدو، الشكوى عند شعراء القرن الخامس، مجلة جامعة الأنبار للعلوم الإنسانية، مجلد3، العدد 14، 1995م.
- قحطان رشيد التميمي، الشكوى في شعر صدر الإسلام، مجلة الآداب، جامعة بغداد، مجلد2، عدد 14.
- محمد التوبخي، حول الأدب في العصر السلجوقي، ط1، (ليبيا، مكتبة فورينا بنغازي، 1974م).
- محمد بن أحمد أبو منصور الهروي، تهذيب اللغة، ط1، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 2001م).
- محمد سعد الدبل، من بدائع الأدب الإسلامي، ط2، (الرياض، مكتبة الملك فهد، 1431هـ).
- محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، (بيروت: دار الثقافة ودار العودة، 1973م).
- مصطفى الشكعة، رحلة الشعر من الأموية إلى العباسية، ط1، (مصر، الدار المصرية اللبنانية، 1418هـ).
- مصطفى الشكعة، فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين، ط1، (القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية).
- ناظم رشيد، الأدب العربي في العصر العباسي، ط1، (الموصل، دار الكتب للطباعة والنشر، 1410هـ).
Powered by Froala Editor